من رواية متاتيا - أمل رفعت

تتناوبُ السنوات طيّ سجل شبابه المتسكع في طرقاتِ الرجاء وأزقة الأمل، ما زالَ يبحثُ من بين نُطفهِ عن أحمقٍ يخلفهُ؛ يكون ظله في ممشاه تحت شمسِ العنفوان من قبل الإفول، حاملاً تراث أجداده من الرواة كما حمله أبوه رضوان أبوشادي المهاجر مِن مقهى النوفر المتعلق بالجامع الأموي كطفل صغير؛ يخشى أن يترك يد أمه فيضل الطريق، ومستمد حياته من نافورة نهر (يزيد) الباعثة في شريانه الأمل، إلى قهوة متاتيا بمصر. ماتت النافورة بموت الحكاية، وانتظرت دمشق المهاجر كي يعود إليها يوما ليقف في وجه العثمانيين ويقص بداية أمل. لم يكن في نيته البحث عن أرضٍ فرعونيةٍ أصيلةٍ يجرى في رحمها النيل لتنجبَ وريثاً له بعد أن جفت أراضي الشام حينما أفرغ رجولته في سبع زوجات على مر عشرين عاماً من دونِ أجنة تثبت أقدامه بأرضِ الحكائين؟ لكن أمُ حمد وحدها حققت حلمه على غير موعد، وحملت جعبة حكاياته، ليشب حمد ابن رضوان المزيج المصري الشامي صاحب الوجه الأبيض المستدير كبدرِ التمام في الليالي القاحلة منيراً حياة رضوان، أرضعته حميدة روحها الفكاهية ووجهها الباسم وحناناً جارفاً أغرقت به رضوان حينما وطأت قدماه أرض مصر، وسكن حجرة من الحجرات الشاغرة التي تشكو من الوحدة في بيتها في شارع محمد علي الممتد بين البواكي فرنسية الطابع أسفل البيوت، والمشربيات الأنيقة التي تكسوا النوافذ، ورثته حميدة والفِرقة العتيقة عن عائلتها الفنية بعد إصابة والديها بالتسمم في أحد أفراح الغلابة. أربع عائلات من الجوقة يقمن في أربع حجرات منفصلة في الدور العلوي في بيت مكون من طابقين، تخصم حميدة إيجار الغرف من حسبة الأفراح، أما باقي الجوقة يقطنون بيوتاً مجاورة من مكان الرزق. صحن البيت في الدور الأرضي مساحة لا بأس بها تجمع الجوقة والراقصة وزوجها بحميدة وصوتها الصداح العذب يلملمهم استعداداً لحفلِ طُهور، أو فرح من أفراح البسطاء، أو حفلة سمر لأحد البكوات ممن يهوى طرب شارع الطرب، قد تكون بروفة لأغاني علمتهَا لهم الدهور و حفظوها عن ظهر قلب، صارت قطعة من روحهم، يتسامرون بها كل ليلة حتى في العُطلات الإجبارية حين ينهش المنافسون منهم أرزاقهم المتواضعة؛ فتنتابهم هستيريا الضحك والسخرية من حالهم فيزيدون في كلماتِ أغانيهم بيتاً من البؤس حطَ كجلمود صبر على قوتهم؛ ينسون كل شيئ ، حتى أطفالهم تهدأ وكأنها شبعت من الطرب وفلكولور وجعهم:
نصوص ذات صلة


