رسم على شفاه محنطة ـ وفاء بونابي

رسم على شفاه محنطة ـ مقطع من رواية "امرأة للحب وأخرى للزواج"
كانت تجر حقيبتها وراءها تسمع صوتها في الزقاق الذي يضم بيت سكنته عائلتها منذ ايام بعد ان غادروا البيت القديم الذي طردهم صاحبه بعد تراكم اشهر الايجار غير المدفوعة،كانت تجر الحقيبة وهي تسمح الدمع على وجنيتها وتتحسس مكان الصفعة التي تلقتها منذ لحظات في عراك مع والدها هذا الصباح وهو يصر على تركها مقاعد الدراسة والالتحاق بالمصنع القريب من اجل توفير المال لعائلتها،لكنها كانت تتشبث بمواصلة مشوارها كانت تؤمن بأنها قادرة على النجاح رغم كل ما يقف امامها من عوائق،لكنه كان يمنى نفسه بأن تتخلى عن احلامها وتلتحق بالمصنع القريب من البيت الجديد توفر مصاريف كراءه ومصاريف العائلة التي تخلى على رعايتها متعللا بتعبه وعدم قدرته على المواصلة رغم ما تتوفر له من صحة جيدة الا انه طالما ذكرها وذكر والدتها واخواتها بفضله عليهن وانه ينتظر ردا لـ "تضحياته" التي بذلها طيلة السنوات الماضية ينتظر ان تعوض بناته تعبه لاجل توفير لقمة العيش التي تصلهن خالية من كل ما تصبو اليه فتيات في مثل سنهن كنا يشتهينا كل شئ تقريبا في هذه الحياة لم تكن الفرصة امامهن متاحة لذلك فضنك المعيشة ادمى قلوبهن،خاصة هي كانت ترى انه من حقها ان تعيش مثل بقية الناس من حولها ،لكنه كان متشبثا بأفكاره القديمة البالية لم يكن يرغب في خروج امها للعمل يتهمها بالخروج عن طاعته كلما فاتحته في الامر ينهال عليها ضربا وشتما وتوبيخا كلما دار بينهم ذلك الحديث عن عملها كان يريد ان تبقى في البيت لا تغادره لا تتواصل مع اي كان من الجيران طالما شاهدته ينهال عليها ضرب ان تفطن الى انها تكلمت مع احد الجارات او تواصلت مع سكان الحي الذي تعودت على تغير وجوههم لكثرة الانتقال من بيت الى اخر،كانت الام تخضع في اخر الامر لرغبته ولا تبدي اي اعتراض خوفا من سطوته وبطشه بها،كانت تريد تغير مصيرها لم تكن ترغب ان صورة اخرى لوالدتها،عزمت على التشبث بأمل الدراسة والرحيل للعاصمة والالتحاق بالجامعة التي تم تعيينها بها لم يكن قد توفر لها من المال سوى ما جادت به احدى صديقاتها ،كان مبلغا بسيط جدا لم يكن يكفي ربما لتنقلها ودفع رسوم الجامعة اما المبيت الجامعي الذي تم توجهها اليه فلم تعلم ابدا اين يقع او كيف تتجه اليه،تحسست المبلغ في جيبها تطمئن لوجوده ومسحت دمعها وواصلت التقدم لتخرج من الزقاق في اتجاه الطريق الرئيسي وواصلت المسير يغطي المطر المتهاطل وجهها فيخفي دمعها عن المارين بسرعة على الطريق،وصلت الى محطة سيارات الاجرة واتخذت مكانا لها في احد السيارة وانحشرت بين الناس هناك تبحث عن بع الدفء الذي ينسيها ما قاسته طوال قطعها الزقاق والطريق منذ قرابة النصف ساعة،انطلقت سيارة الاجرة في طريقها الى العاصمة تلاحقها حبات المطر المتزايدة تقرع السقف في نسق متواصل يظاهي نسق الافكار التي كانت تقرع رأسها في حركات محمومة وهي تراقب الطريق من خلف النافذة التي تمد يدها من حين الى اخر لتمسح عنها ضباب انفاسها الذي ان يحجب الرؤية عنها كلما تراكم على الزجاج،لك تعرف كم من الوقت مر غير انها وجدت السائق يطالب الركاب بدفع الاجرة فمدت يدها ودفع ما طلبه،ثم عادت تراقب الطريق مرة اخرى فعلمت انهم دخلوا العاصمة من خلال ما شاهدته من تراكم وتلاصق للبنايات وارتفاعها الشاهق الذي يحجب وجه السماء،توقفت السيارة وبعد الكل بالنزول توجهت لحمل حقيبتها وسألت السائق عن كيفية التوجه للمبيت الجامعي فدلها على طريقه فركبت سيارة تاكسي في اتجاهه لم بعيد كثيرا عن محطة سيارات الاجرة الا ان زحمة المرور الخانقة التي اعاقت تقدم السيارات اخرت وصلها في الوقت المحدد للتسجيل بالمبيت الجامعي الا انه تم استقبالها الى حين تسوية الامر من الغد ،استلمت غرفة تقاسمتها مع اربعة طالبات،ثم اتجهت الى الجامعة التي تم توجهها لها بعد نجاحها،لم تكن تعلم ان رسوم الجامعة ستقضي على المبلغ المتبقي في جيبها والذي حملته معها تظن انه سيكفيها لدفع رسوم المبيت الجامعي والجامعة ولمصاريفها في انتظار وصول المنحة الجامعية بعد شهر اخر،كانت صدمتها كبيرة عندما دفعت تقريبا كل المبلغ في الجامعة ثم تسلمت الجدول الدراسي وغادرت تجر قدميها في شوارع العاصمة تصادفها وجوه كثيرة في تقدمها من شارع الى اخرى متجاهلة الامطار التي كانت قد بللت شعرها وبدأت في التسرب الى جسدها الضغيف ،كانت تتقدم بلا هدف تبغي او وجهة تقصدها غير انها توقفت اما بناية شاهقة مازالت تحافظ على تماسكها رغم القدم الظاهر عليها شد انتباهها لفتات متعددة تعلن عن مكاتب عدة في تلك البناية دخلت واخذت تتقدم صعودا في الدرج الى ان توقفت امام مكتب احد المحامين مدت يدها دون تردد لتقرع الجرس وهمت بالتراجع ظنا منها ان لا احد موجود بالمكتب لكنها وجدت الباب يفتح وتطل منها امرأة متقدمة في السن رمقتها متسائلة عن سبب وجودها هناك فوجدت نفسها تعلمها برغبتها في مقابلة صاحب المكتب ،لم تكن تعر طبيعة عمل صاحبه كان مكتب وكفي اردت ان تخوض هذه التجربة ان ترى ما سيسفر عنها، ففتحت العجوز الباب ودعتها للدخول لتكشف انها القائمة على شؤون المكتب والتي اشارت لها بالجلوس في قاعة الانتظار ثم غابت ورجعت بعد لحظات تدعوها للدخول لمكتب المحامي الذي وجدته قد تصدر القاعة خلف طاولة كبيرة يتوسطها حاسوب صغير والى جانبه بعض الملفات التي انهمك في دراسة احدها،رفع بصره نحوها عندما دخلت واغلقت العجوز الباب من وراءها،اشار اليها بالجلوس الى احد الكراسي وسألها عما جاء بها الى مكتبه،فوجدت نفسها تعرض عليه حكايتها ورغبتها في ان يساعدها على مواصلة دراستها بمبلغ صغير كل شهر رفع بصره اليها يرمقها بنظرة تكشف عن خبرة في تصفح وجوه الناس بحكم مهنته ثم رايته يجذب دفتر من درجه ويخط عليه بقلمه ويسلمها اياه متمنيا لها حظا سعيدا كان شيكا بنكيا صرفته في احد فروع البنك الذي شاهدت اسمه على الشيك الذي اخذت تضغط عليه بين اصابعها خوفا من تساءلها موظفة البنك من اين لها هذا فلم تكن دخلت بنكا قبل ذلك اليوم،واعتادت على المرور الى مكتبه كل شهر يسلمها الشيك متمنيا لها الحظ السعيد والتوفيق ،كانت تخرج تحمل المال في حقيبتها غير مصدقة ما يحصل معها في كل مرة،الا انها استحسنت ما يحدث معها ،احست بقربه منه،كان رجل قد تجاوز العقد السادس من عمره،لكن اسلوبه معها وطريقة معالته لها جعلها تتعلق به كانت تقضي الساعات داخل مكتبه وهو يتحدث اليها،كانت ترى اانشراح على وجهه كلما دخلت مكتبه،ابحت تعتني بزينتها وملابسها وبالعطور التي كانت تضعها وقد رأت انه ضاعف لها المبلغ الشهري دون ان يلمح لذلك في اشارة فهمت من خلالها دعوته لاهتمام بمظهرها كانت تفعل ذلك لاجله احست لاول مرة ان هناك من يهتم بها من يفرح لوجودها اصبح الذهاب لمكتبه ممتع لها لم تعد خائفة مثل اول مرة دخلت فيها المكتب تذكر ان قلبها كاد يتوقف من شدة الخوف وهي تنتظر اشارة العجوز القائم بشوؤن المكتب بالدخول،لكنها الان اصبح تدخل دون ان تسأذنها كانت تجده يفتح الباب بنفسه ينتظر دخولها بعد تعلمه انها قادمة عبر الهاتف،كانت العجوز ترمقها بنظرات استنكار من خلف نظارات تغطي كامل وجهها المجعد والذي يزيد انقباظا كلما راتها تدخل وراءه المكتب ليغلقه بالمفتاح فقد اصبح يحافظ على هذه العادة منذ مدة كما انها راته يغير مكان جلوسه متخذا كرسي يقابلها يجلس فتترنح الشحوم من بطنه وتلامس رجله ساقيها الصغيرة فتجذبها في خجل طفيف تجاوزته الان فقد اصبحت تنتظر يده يضعها على فخذيها ثم ينحني لقبلها مهما بأنه اشتاق اليه وانه يعشقها حد الموت،كانت تشعر انه قريب منها يعطيها الشعور بالحماية والعطف لم تكن تعرف غيره في العاصمة حتى الطالبات اللاتي كنا يقاسمنها الغرفة لم تكن تعرف عنهن شئ فمعظم وقتها تقضيه في الجامعة ولياليها تقضيه صحبته في بيته الفاخر في احد الضواحي الراقية من العاضمة كان ينتظرها بلهفة كبيرة يشبع نهمه من جسدها الصغير الذي يضمحل تحت وطأة الشحوم المتراكمة التي تكتم انفاسها فكانت تكتم حزنها خوفا من تخسره فقد كانت تعودت حياة الترف التي منحها اياها لم تعد تشعر بالخجل من فعل ما تقدمه عليه كل مرة كانت تغتسل وتخرج دون حرج او خوف من اي كانت تسكن بيته ليلا وتغدو للجامعة نهارا تعودت الترف الكبير الذي خصصه لها لم يكن يحرمها شئ تريده او يرحم عائلتها كانت يغدق عليها المال الوفير ...
اتصل بها في ذلك اليوم يعلمها انه ينتظرها بالبيت بلهفة كبيرة،تزينت وارتدت اجمل الثياب واستقلت سيارة تاكسي في اتجاه بيته ،وجدته قد احضر الطعام وزين الطاولة وتمدد على أريكة يتابع التلفاز استقبلها كعادته ثم قدم لها صندوق كبيرا ملفوفا بطريقة رائعة كانت هدية لها دعاها ان تراها في غرفة النوم دخلت الغرفة وفتحت الصندوق كان لباس نوم رائع حريري الملمس انساب على جسدها الذي كان قد امتلئ المدة الاخيرة نتيجة الترف الكبير الذي كانت تعيشه فظهرت تقاسيم جسدها رائعة داخل اللباس كانت ترفل به امام المرأة في زهو غريب،كانت قد قررت منذ مدة ان تفاتحه في امر شراء سيارة لها،ورات ان الليلة الفرصة سانحة لذلك بعد ان يرى جمال الثوب على جسدها،فانتبهت على صوت طلقات رصاص متتالية تكسر السكون المعتاد في ذلك الحي الراقي فخرجت مسرعة تبحث عن مصدر الصوت فوجدته مرميا على وجهه غارقا في بركة دماء من حوله صرخت بأعلى صوتها،ثم تقدمت منه ورفعت رأسه بين يدها كان وجهه محنط وعيناه غائرتان وشفتاه محنطة ،اخذت راسه بين يدها واخذت في البكاء والنحيب لم تفق منه الا وهي ملقاة على فراش في غرفة بيضاء ترتدي نفس الثوب الذي اهدها اياه قبل ان تجد ميتا بتلك الطريقة نهضت لتجد امها ووالدها واخواتها يراقبها من خلف شباك بلوري لم تتبين حركات شفافهم وهم يشيرون اليها بالتساؤل والحيرة ،اشاحت بوجهها ناحية اباب الذي فتح ودلف منه عدد من الرجال عملت من ازياءهم انهم شرطة فنظرت اليهم بعيون غائرة وتحنطت الكلمات على شفتيها وعادت لغيبوبة متواصلة بعيد عن ذلك العالم تتراقص امامها الكلمات "قتلته بهدف السرقة هذا ما يجب قوله للناس " وترنحت الاصوات منتحبة من حولها رجل دولة قادم قتله عشيقته في بيته، تراقصت الصور امامها والدها ينهال بالضرب على راسها، امها تمزق الثوب عن جسدها، اخواتها يمسكون باطراف نهديها يجذبونه في حركات متواصلة، كلاب مسعورة تقطع اوصالها، وشفاه محنطة ترسل رصاص لصدرها،مياه تغمر البلاد،تغرق العباد، تتراقض الجرذان على ابواب المخابز، تخطف الخبز وتفر لجحورها فرحة، وتعود طيور الابابيل ترمي البلاد بحجارة من سجيل،ويتراء لها وجهه الغائر وهو يسبح في بركة الدماء تتخاطفه الغربان لتحمل جثته وتلقيها على أعلي الجبال، ويعود الرذاذ الحارق لتسرب من عيون والدها المحدق اليها من خلف زجاج البلور الفاصل، فيصب راسها ويتغال الدماء المجمدة في عروق سندريلا المساء،ويعود الليل ليرسم على الشفاه المحنطة لوحات العراء الساخرة ...
نصوص ذات صلة


