صور وأصوات - نهلة ابو العز

فتحت الباب بحذر بعد أن تأكدت أن الطارق هو «شعبان» البواب، أخذت منه أرغفة الخبز الثلاثة والجريدة. أغلقت الباب بعد أن منحته النقود بلا كلام، عادت بالخطوات البطيئة نفسها إلى المطبخ.. كان براد الشاي يغلي، سكبت نصف الكوب فقط، ووضعت بيضة مسلوقة مع قطعة جُبن صغيرة في الطبق، أغلقت عليها باب غُرفتها بعد أن وضعت الطبق وكوب الشاي على منضدة خشبية متوسطة الحجم بجوار السرير. فتحت التليفزيون لتسمع الأخبار بلا اهتمام، قبل أن تضع أول لُقمة في فمها رن جرس الهاتف الموجود على المنضدة، رفعت السماعة ببرود ولم ترد، صوت من الجانب الآخر قال:
- أمي.. من فضلك أريد أن أكلمكِ، أمي.. ألو..
صمت لم تتنازل عنه، على الرغم من تغيُّر لون وجهها.
أغلقت الخط بعد أن انتهى من حديثه الطويل عن أحواله ورغبته في رؤيتها دون أن تنبس ببنت شفة، وضعت البيضة في فمها دفعة واحدة وبدأت المضغ على مَهل، وبالكاد بلعتها، فتحت درج الكومودينو وأخذت حبة دواء من شريط أزرق، ومعه ألبوم صور.
تصفحت الألبوم بالهدوء نفسه.. في أول صورة طفل يرتدي «سالوبيت» أبيضَ وهي تحمله برفق وتبتسم، يضع يده على كتفها وينظر معها للطفل، وخلفهما ستارة بيضاء منقوشة باللون الوردي.
كان هذا اليوم هو سُبوع «فريد»، طفلها الأول، تذكر جيدًا عندما وضعت ولدًا، كان «علوان» زوجها سعيدًا جدًّا.. قال بزهو:
- شكرًا يا «ثريا» هانم، منحتني صبيًّا يحمل اسمي ويرث العيادة.
ابتسمت وهي تقول:
- أتمنى أن أراه مهندسًا.
غضب منها وخاصمها يومين لأنه لا يقبل أن يعمل أول أبنائه بمهنة غير مهنته ومهنة عائلته.
من جديد، رن الهاتف ورفعت السماعة بلا كلمة واحدة، جاءها صوت ابنتها هذه المرة:
- ماما.. لماذا تعذبين نفسك وتعذبينا معكِ؟ «ثريا» الصغيرة نجحت اليوم وتريد أن تتحدث معكِ.. ألو.. تيته.. أنا أحبك، نجحت وحققت مركزًا متقدمًا.
بصوت هامس قالت:
- مبروك.
وأغلقت التليفون.
الصورة الثانية في الألبوم كانت لـ«فايزة» يوم أن وُلدت ويحملها «فريد»، بينما كان «علوان» يقف بعيدًا، قال يوم أن وضعتها:
- البنت همّ يا «ثريا».
- لكن أنا فرحانة.. كل أشقائي رجال ولم أجرب إحساس أن تكون لي أخت.
قال بصوته الخشن:
- والدك كان محظوظًا.
لم تكترث كثيرًا برأيه؛ فالنظرة في وجه «فايزة» كافية لتغير وجهتها نحو الحياة.
«فريد» عاش في ثوب أبيه؛ يتحدث مثله ويرتدي ألوانه نفسها ويسمع الموسيقى نفسها، أما «فايزة» فكانت مُنطلقة مرحة، لا تكترث كثيرًا بقواعد البيوت العريقة، وهذا كان يحقق لـ«ثريا» بهجة وروحًا وخروجًا من قالب الحياة المجمدة التي عاشت فيه.
مثل كل يومٍ، نامت وهي تحتضن ألبوم الصور وتركت التليفزيون مفتوحًا، جاءا في المنام معًا: زوجها وأبوها، كانا يقفان متحفزين لها، قال أبوها:
- هل هذه أخلاق البيوت العريقة؟
رد «علوان»:
- كيف تعيشين بمفردك يا هانم؟
لم تدرك جيدًا أكان هذا حلمًا أم حقيقة؟
وكيف يكون حقيقة وهما ميتان منذ سنواتٍ طويلة؟
الليل قادم وتشعر بالجوع.. قامت متكاسلة وأعدت طبقًا من الخضار المسلوق وقطعة لحم صغيرة، أكلت ووضعت الطبق علی المنضدة، ابتسمت فجأة عندما مر طيف «إسماعيل» أمامها، هو كذلك، كلما مر على حياتها أضاف شيئًا جميلًا ورحل.
يوم أن قال لها أُحبكِ، كانت في السادسة عشرة من عُمرها، الخجل والتقاليد منعاها أن ترد عليه، لكنها كانت سعيدة جدًّا، بعدها بعام تزوجت «علوان» بيه، صاحب المستشفى الكبير وابن وزير الصحة، يوم زفافها أهداها هذا العِقد من اللؤلؤ، تحسسته برفق، لم تخلعه يومًا من صدرها، وكلما انفرط أعادت لضمه بنفسها.
مثل النسمة كان يهفو عليها كلما اشتد الحر، تعمَّد أن يسكن في عمارة ملاصقة لها، وكانت نظرته الدافئة تكفي لبرد حياتها المُستمر.
عندما ذهب «فريد» لأول مرة إلى المدرسة، وجدته هناك ينتظرها، ولأول مرة منذ زواجها يتحدث معها:
- مبروك.
قالها بابتسامة.. رفعت عينيها لتراه بشكل واضح لأول مرة، كان وسيمًا، ملامحه متناسقة ومتألفة، بودٍّ قالت:
- ميرسي.
وذهبت وهي تحتضن نظراته.
وجدت الألبوم علی الأرض.. رفعته وفتحته من المنتصف، لتجد صورة «علوان» في حفل تخرج «فريد» في كلية الطب، كما أراد، كان سعيدًا وهو يمنحه أمانة المستشفى ويقول له:
- الآن يمكنني أن أستقبل الموت وأنا مرتاح.
«فريد» كان مسخًا بلا شخصية محددة، يقلد أباه، حتى غابت ملامحه الحقيقية، لم تحضر هذا الحفل، يومها كانت ترعى أباها الذي أصابته جلطة في القلب، بينها وبين «فريد» حاجز لا تعرفه، وبينها وبين «فايزة» بحر من التفاهم والود؛ لذا كانت تفضِّل أن تكون دومًا برفقتها، الصورة المُقابلة لـ«فريد» و«فايزة» و.. «إسماعيل» ابن عمتها، جاء ليزورهم في العيد والتقطت هي هذه الصورة.. كانت تقصدها حتى يبقى معها هُنا.
نصوص ذات صلة


